انعطافات مستقيمة

المصدر : جريدة بلدنا
19/03/2009
يكثر عدد الشعراء كثيراً، ويقلّ الشعر.. يتزايد عدد الرسامين الذين يمارسون التشكيل، وتخفت في الوقت نفسه الألوان أو تميل نحو الاعتياد..! يتناسل الرواة بشكل مخيف، ويندر السرد الذي يدفعنا إلى أن نقول: (يا الله)..! يتزايد عدد الأطباء كثيراً، ليرتفع عدد المتوفين أو المنقولين إلى غرف الإنعاش.. تتكاثر الفرق الموسيقية، ويتوالد العازفون ..!

والمؤلفون، وفي الوقت نفسه يبدو السلّم السباعي محطماً غير قادر على الارتقاء بالاستماع..! وكأنّ هناك خراباً طردياً يتناسب مع كلّ زيادات تحصل في كلّ أنواع الفنون!.
إذا كان زمن الانعطافات الجذرية قد انتهى، ففي أيّ مرحلة يمكن أن نكون الآن؟ هل هي مرحلة المخاضات التي تنذر بالهطول الكبير كما يتوقع البعض؟ أم أنّ زمن ريادة الفنون وقدرتها على التنبؤ والاستشراف قد ولّى، ونحن لسنا سوى آخر الفلول التي تقف على الأطلال؟.
إن الاتهامات التي تتناقلها الأجيال المتعاقبة تكفي لأن تفضح الكثير من تفاصيل عملية الولادات العسيرة التي تتعرض لها شتى أنواع الفنون.. فالجيل القديم مشغول بالنحو والبحث بين وثائق الأرشيف، أما الجديد فمهووس بدكّ الحصون والبحث عن الاختلاف..!.
من الواضح أنّ التشكيل راح يميل إلى الاعتماد على اللون أكثر، حتى إنّ التفاصيل الدقيقة للحوافّ بدأت تغيب لتحلّ مكانها البقع اللونية التي تقدم الأشياء على نحو فيه الكثير من التداعيات والدلالات.. النساء في اللوحات يبدون أكثر خضوعاً للاحتمال والإسقاطات من السابق .. حتى عندما تصوّر الأعمال مشاهد الطبيعة الصامتة، فإنّ التعديلات التي يدخلها الفنان على قطع الزجاج والمناضد تحاول أن تزودها دائماً بالدلالات.. فالتشكيل لم يعد يقبل بمرحلة التصوير أو الفوتوغراف التي تفرض على الفنان الحياد، فهو الآن يصرّ على إعادة الصياغة حتى على صعيد الأشياء الموجودة سلفاً كمسلّمات، وكأنّ الفنون راحت تمعن في التجريد والميل إلى الترميز أكثر من الإقبال على تقديم الحقائق على طبق من ذهب.. فالتجريد يحمّل الأشياء أحياناً أكثر من طاقتها، لكنه في الوقت نفسه يترك الباب مفتوحاً للتكهنات والتفسيرات المختلفة تبعاً لعين المشاهد التي عليها أن تحلّ اللغز وتحصل على المفاتيح كي تدخل إلى عالم يبدو مجهولاً أو مليئاً بالمطبّات والتجريب والبحث، وهي أشياء يقول الفنانون إنها أفضل من الترويض والألفة في اللقطات الكثيرة التي يمكن للريشة الحصول عليها، فلماذا لا ننحاز إلى الاحتمال والنوافذ المفتوحة بدلاً من الركون والتسليم بالأمر الواقع من تاريخ الفنون..؟ هل ولّى زمن الواقعية تبعاً لتطور زمن الاتصالات والرموز.. هل نحن في عصر الصورة التي عليها أن تهمل الكوادر الحادّة لتميل أكثر نحو التلاشي في الحواف؟ هل من المفترض أن نركّز على (الزووم إن) أم على (الزووم آوت).. وهل تصلح المطابقة هنا بين التشكيل الذي هو فنّ بصري بامتياز، وبين الشعر الذي يتلاقى معه في أكثر من مكان؟.
أسئلة الفنون تبدو أكثر من ترف عابر.. أو مجرد انتظار على قارعة الأوتوسترادات بانتظار متعة الانعطاف.. وتغيير الاتجاه